هنا في ضيافة المغرب غير النافع كما يصطلح عليه، بدوار " اكدال " على بعد 93 كلم من مدينة أزرو احدى مدن اقليم افران، شعب يجابه قسوة البرد وقهر الثلج بالصلاة ، يدعون من خلالها البارئ رأفته وينتظرون القليل من رحمة الدولة التي يختزلونها في مساعدات قد تأتي و ربما لا تصل ..يعيشون بالأمل وكثير من الألم.
الساعة الثامنة صباحا انطلقنا شرقا فاستقبلتنا الجبال الانيقة الملتحفة ببياض الثلوج كأنثى أطلسية شامخة لا تملك امامها سوى الرضوخ والخشوع امام عظمة المكان وهدوئه الذي لا يفسده سوى صوت عجلات السيارات على هذه الطرقات الملتوية ، ولا تزيدك رائحة اشجار الصنوبر البري الا تقديسا للمكان. كنا كلما غصنا في الجبال اكثر كلما اشتد البرد واشتدت وعورة الطريق ، من أزرو وصولا الى " تمحضيت " ثم دوار أكدال..
قطعنا ما يزيد عن ساعتين من الطريق، كان يوم الجمعة مما يصادف يوم السوق الاسبوعي بدوار " أكدال " التابع لجماعة واد افران وبالتالي مناسبة اسبوعية لتلاقي ساكنة مختلف الدواوير المجاورة ( البقرية – بني لياس – ايت مويي ...) والتي يبلغ تعداد ساكنتها اكثر من 11028 نسمة ،البعض منهم قدم على ظهر الدواب (ما يقارب خمس ساعات)، و البعض الاخر مشيا على الاقدام ( ما يزيد عن 32 كلم بالنسبة لأبعد دوار)..كلهم أتوا لاقتناء حاجياتهم الاسبوعية من طعام او ملبس وكذا لزيارة المستوصف المتمركز في وسط الدوار.
وصلنا وأول ما لفت انتباهنا تجمهر الساكنة حول مكان يبدو انه مستوصف ، على يسارنا بغال متراصة تكاد تلاحظ حزنا غريبا بعيونها ، وبين مجموعة و اخرى كلاب متوحشة كأنها تشتهي لحم الانسان الدخيل. صخب صوتها لفت الانتباه لنا فارتأينا دخول المستوصف المكتظ.
هذا المستوصف الصغير المتمركز وسط دوار اكدال، توجد به ممرضة واحدة فقط تأتي مرة في الشهر او مرتين على حد أقصى، ووسط هذا الصقيع ان حصل ومرض احدهم يضطر مجابهة المرض وحيدا بما تيسر من الاعشاب او الطب البديل وان كانت الطريق سالكة فأقرب مستوصف اخر يبعد اربع ساعات.
فاطمة كانت تمسك ابنتها الشقراء الصغيرة يبدو عليها التعب الشديد وبعينين قويتين قالت : انا قادمة من دوار اسمه البقرية بعيد عن هذا السوق وقطعت تقريبا 3 ساعات في هذا البرد، يعني انا و ابنتي التي تبلغ 5 سنوات جئنا على ظهر " بغل " لكيلومترات وهكذا نفعل مرارا ان سمح الجو لعلنا نصادف الممرضة في المستوصف، فمن حسن حظنا انها موجودة هذا الاسبوع، هي تأتي مرة في الشهر او شهرين ولا تأتي اثناء تهاطل الثلوج تماما كما المعلمين بالمدرسة، هؤلاء يرعبهم البرد و الثلج و نحن نعيش هذه المأساة بشكل يومي، هو قدر لا هروب منه الا بالموت "
تدخلت امرأة اخرى اكبر سنا لتؤكد " نحن في هذا الدوار و الدواوير المجاورة نعيش كالحيوانات و ربما الحيوانات تعلو قيمة عنا، قبل قليل الممرضة رفضت اعطائي الدواء فقط لاني لا املك 50 درها، هذا الدواء المفروض ان يعطى لنا بشكل مجاني، كلما اتت هذه الممرضة ننتظر الدور وقد يحالفك الحظ او لا فتعود أدراجك الى البيت، اقرب مستوصف اخر يبعد عنا بأربع ساعات اما اثناء الثلوج فذلك حال لا يدركه غير العلي القدير "
ويضيف رجل ستيني بابتسامة مصطنعة تواري حزنا كبيرا : " يا ابنتي كلما اشتد البرد وتساقطت الثلوج يصير التنقل صعبا ونعزل عن الجميع، ان مرضت او كنت امرأة حامل فمصيرك الموت لا محالة، كل الطرق تكون مقطوعة فلا سبيل للاستشفاء او الولادة او غيره نحن نعاني جدا ، لا نتمنى شيئا سوى تعبيد الطرقات فهؤلاء المستشارون الذين صوتنا لهم خذلونا و لا يحققون لنا شيئا "
وقال لنا احمد وهو شاب في مقتبل العمر يعمل في الرعي وتجارة الماشية فهي المهنة التي يقتات بها الساكنة قوتهم اليومي : "في حال ما إذا مرض شخص ما من الدوار او الدواوير المجاورة ، نضطر لنقله بواسطة البهائم علما أن المسافة جد بعيدة لحين الوصول للطريق، ثم ننتظر مرور شخص ما بوسيلة نقل، وفي الغالب لا نجد أي شخص، أحيانا كثيرة ننتظر قدوم شخص ما يملك جرار ليوصل المريض لمكان أقرب لطريق يسمح بمرور السيارات.. ومرات عديدة يموت المريض. نحن في عزلة تامة حتى ماشيتنا تموت بسبب البرد و العزلة وانقطاع الطريق واثناء كل هذا نعاني ندرة وسائل التدفئة"
نعيمة ايضا تحدثت بحرقة وصوت عال وهي ربة بيت و ام لطفلين قدمت الى هذا الدوار مشيا ما يقارب 32 كلم كونها لا تملك بغلا : "قدمت لشراء المؤونة فقد علمت انها ستهطل مرة اخرى جئت من دوار بعيد وراء الجبل الذي ترونه هناك"
مشاكل كثيرة تعانيها هذه المناطق جراء العزلة، بما فيها زواج القاصرات، مشاكل التمدرس والصحة ، صعوبة الحياة وبساطة المدخول ...وعن ما اذا كانت تصلهم معونات الدولة أكدت الساكنة، ان لا شيء يصلهم..وحتى ان وصل شيء بسيط فهو فتات على القلة القليلة.
يقول رئيس الجماعة الترابية لواد افران السيد بن يوسف لياسي بخصوص العزلة ومشاكل الساكنة "هذه المناطق فعلا تعاني ونحن بحاجة لمن يسمع صوتهم،مشاكل كثيرة تعرفها المنطقة على رأسها العزلة و الموت الذي يتربص بالساكنة أثناء تهاطل الامطار او تساقط الثلوج، كذا مشكل موت الماشية على قلة العلف وندرة وسائل التدفئة... نحن لا نخفيكم معاناة الساكنة منهم من أدخل اغنامه عقر بيته كي يتدفؤوا ولا يموتوا جراء البرد، و بالنسبة للإعانات او المساعدات لا يوجد. أغلبها تذهب لنواحي انفكو، في حين ان هذه المنطقة تعاني أكثر بكثير من انفكو، فهنا اقسى درجة من البرد في افريقيا كلها ...الساكنة لا تطلب شيئا سوى ان يتم تعبيد الطرقات كي لا تنعزل اثناء الثلوج، هي لا تطلب شيء فقط ابسط شروط العيش الكريم، وصوتهم يجب ان يصل "
هم هكذا أناس بسطاء لا يطمحون لمناصب او ريع سياسي او مقعد برلماني، لا انتماء حزبي لهم، بل لا انتماء لهم سوى انتمائهم لهذه الارض .. بسطاء حتى في مطالبهم فهم لا يريدون سوى تعبيد الطرقات و لا يستجدون أحدا من المسؤولين.
رحلنا ونحن ننظر لعيون الساكنة المتشبّثة بنا وكأننا بصيص أملهم...